سورة الجاثية - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)} [الجاثية: 45/ 16- 22].
المعنى: تالله، لقد آتينا الإسرائيليين كتاب التوراة، والسنّة والفقه والقضاء، وما تكرر فيهم من الأنبياء عليهم السّلام كموسى وهارون، ورزقناهم من المستلذّات الحلال، لتتم النعمة ويحسن تعدادها، مثل المن والسلوى وطيبات الشام بعد، إذ هي الأرض المباركة، وفضلناهم على عالم زمانهم. وآتيناهم بينات من الأمر، أي الوحي الذي فصّلت به لهم الأمور، ولكنهم لم يشكروا هذه النعم الست، بل اختلفوا في أمر الدين وأخطئوا، فلم يكن اختلافهم اجتهادا في طلب الصواب، حتى يعذروا في الاختلاف، وإنما اختلفوا بغيا وظلما بينهم، بعد أن تبينوا الحقائق، فتوعدهم اللّه تعالى بوقف أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة، فإن اللّه سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة، في شأن اختلافهم في أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين المحق من المبطل، وفي هذا تحذير للمسلمين أن يختلفوا كاختلاف بني إسرائيل.
وأعقب اللّه تعالى بعد شريعة موسى عليه السّلام شريعة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، فإياك أيها النبي من الاختلاف، واتبع شريعتك المنزلة عليك: وهي المشتملة على الفرائض والحدود والأمر والنهي، وهي من جملة أمر اللّه المشتمل على الأوامر والنواهي، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين، الذين لا يعلمون توحيد اللّه وشرائعه. والذين لا يعلمون: هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى إرادتهم.
إن هؤلاء الكفار المشركين الجهلة، لن يدفعوا عنك من اللّه شيئا أراده بك، إن اتبعت أهواءهم، وخالفت شريعتك.
ثم حقّر اللّه تعالى شأن الظالمين، مشيرا بذلك إلى كفّار قريش، فإنهم يتولى بعضهم بعضا، والمتقون: يتولاهم اللّه عز وجل، فخرجوا عن ولاية اللّه تعالى وعونه ونصره، وتبرأت منهم، ووكل اللّه تعالى بعضهم إلى بعض.
وهذا القرآن بصائر للناس، أي معتقدات وثيقة منوّرة للناس طريقهم، وهادية إلى الجنة كل من عمل بها، ورحمة من اللّه وعذابه في الدنيا والآخرة، لقوم يوقنون بصحة الشرع وتعظيم ما فيه.
بل ظن الذين اقترفوا الآثام والمعاصي في الدنيا، وكفروا بالله ورسله، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين صدّقوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض، واجتناب المحارم، بأن نسوي بينهم في الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة، وأن محياهم ومماتهم سواء، فلا يستوي الفريقان حياة وموتا، ثوابا وعقابا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة، وأولئك المشركون عاشوا على المعصية، إن زعموا ذلك، ساء الحكم حكمهم، وبئس القرار قرارهم.
نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي اللّه عنهم، وفي ثلاثة من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: واللّه ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا، لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر اللّه عليهم هذا الكلام.
والدليل على صحة مبدأ التفاوت في الآخرة وحكم اللّه بين المحسنين والمسيئين:
أن اللّه تعالى خلق أو أبدع السماوات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين الناس، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق، بل كان بالباطل، ومن العدل: اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء، فتجزى كل نفس بما قدمت، من عمل صالح أو سيئ، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
الوثنية وإنكار البعث:
للمشركين الوثنيين سيئات كثيرة، ومآخذ وعيوب عديدة، من أخطرها عبادة الأصنام، عملا بالهوى والشهوة، وإنكارهم البعث، وقولهم: ما يهلكنا إلا الدهر، أو الليل والنهار، وبعدهم عن الحق والخير، بسبب كفرهم وعنادهم، واعتمادهم على الأوهام والتخمينات، والتقليد الأعمى، فنبههم القرآن الكريم إلى أدلة قدرة اللّه وتوحيده، وإمكانه إحياء الناس مرة أخرى، وإلى حسابهم وجزائهم على ضلالهم، ومفاجأتهم بصحائفهم المدوّن فيها أعمالهم وعقائدهم، بالحق والعدل، دون زيادة أو نقص، لتكون شاهدة عليهم، وهذا بيان القرآن لأحوالهم:


{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية: 45/ 23- 29].
آسى اللّه تعالى أو آنس نبيه عن إعراض المشركين عن الإيمان، فطلب منه ألا يحفل بهم، ولا يهتم بأمرهم، فليس فيهم حيلة لبشر، لأن اللّه بسبب إمعانهم في الكفر أضلهم. ومعنى الآية: أخبرني عن حال هؤلاء المشركين الذين أطاعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم ما يهوونه، فكأنهم جعلوا الهوى إلها يعبدونه من دون اللّه، فلا يهوى أحدهم شيئا إلا اتبعه، وخذلهم اللّه، عالما بضلالهم، لفساد استعدادهم وأحوالهم، وطبع اللّه تعالى على أسماعهم وقلوبهم، فلا يسمعون الوعظ، وجعل على أبصارهم غطاء، فلا يبصرون الهدى والحق، فمن الذي يرشدهم للصواب بعدئذ؟ أفلا تتذكرون وتتعظون أيها المشركون؟ والهوى: ما تريده النفس وتحبّه.
نزلت كما أخرج ابن المنذر وابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول، وعبدوا الآخر، فأنزل اللّه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ}. وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفرة، فهي متناولة جميع أهواء النفس الأمّارة بالسوء. وآية {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} قال مقاتل: نزلت في أبي جهل.
وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله تعالى: {اتَّخَذَ} وفي قوله تعالى: {عَلى عِلْمٍ} أي على علم من هذا الضلال، فإن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه، فهم معاندون مكابرون.
وقال المشركون الماديون، والدهريون المنكرون للبعث: ما في الوجود إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحن فيها، وليست ثمّ آخرة ولا بعث، وما يهلكنا إلا طول الزمان أو الدهر، ولا دليل لهم على هذه المقالة من نقل أو عقل، وما مستندهم إلا الظن والتخمين، من غير حجة أصلا، فهي ظنون منهم وتخرّصات، تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى. والدهر والزمان بمعنى واحد عند العرب. أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل اللّه: {وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ} ودليلهم على إنكار البعث ما قالوا: إذا تليت عليهم بعض آيات القرآن، واضحات الدلالة على قدرة اللّه على البعث والقيامة، قالوا: أحضروا آباءنا الذين ماتوا أحياء، إن كنتم أيها المؤمنون صادقين في إمكان البعث، لنسألهم عما رأوا، ويشهدوا لنا بصحة البعث.
فأجابهم اللّه تعالى: قل أيها النبي لهؤلاء المشركين منكري البعث: إن اللّه أحياكم في الدنيا، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعكم جميعا يوم القيامة، جمعا لا شك فيه بعد إماتتكم، بلا ريب في نفسه وذاته، فإن الذي قدر على البداءة، قادر على الإعادة بطريق الأولى، ولكن أكثر الناس، وهم مشركو العرب ينكرون البعث، من غير تأمل ولا تدبر وإمعان فكر.
ودليل آخر على إمكان البعث: قدرة اللّه الخارقة، فالله مالك السماوات والأرض، والحاكم فيهما، والمتصرف بهما وحده في الدنيا والآخرة، ويوم تقوم القيامة، يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، بدخول جهنم، يظهر خسرانهم في ذلك اليوم، لصيرورتهم إلى النار.
ومن أهوال القيامة: ترى كل أمة (جماعة عظيمة من الناس يجمعها معنى أو وصف شامل لها) جاثية على الركب، وهي هيئة المذنب الخائف، فهم لشدة الأمر، يجثون على الركب بين يدي اللّه عند الحساب، وكل أمة تدعى إلى كتابها المنزل على رسلهم، أو إلى صحف أعمالهم، وفي يوم القيامة: يجزيكم الله بما عملتم في الدنيا من خير وشر، تجازون فيها، من غير زيادة ولا نقص.
وهذه صحف الأعمال التي أمر الله الملائكة الحفظة بكتابتها، تشهد عليكم، وتذكر جميع أعمالكم، من غير زيادة ولا نقص، إن الله كان يأمر الحفظة أن تكتب أعمال الناس عليهم، وتثبّتها وتحفظها عليهم، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين هم في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، أي إن الله عن طريق ملائكة يقيد كل ما عمل الناس، ويحدث تطابق ومراجعة بين ما دوّنته الحفظة، من اللوح المحفوظ، وبين ما يفعله العباد، ثم يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، وهذا هو الاستنساخ المذكور في الآية (29).
أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة:
أخبر القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين وجزائهم الحسن، وأحوال الكافرين وسوء عقابهم، للمقارنة أو الموازنة بين مصير الفريقين، فإن الأشياء تتبين بأضدادها، فيبين الأمر في نفس السامع، ومن أسباب عقاب الكفار: إنكار القيامة، واستبعادهم لها، وتوهم وجودها من غير تحقق ولا تيقن، واستهزاؤهم بها، واغترارهم بالدنيا، وترك استعدادهم للآخرة، بالإيمان والعمل الصالح، مع أن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، لأنه يملك السماوات والأرض وما بينهما، وهو رب العالمين جميعا، وهو صاحب العزة والكبرياء، فلا يغالبه أحد، هذا ما وصف القرآن لنا:


{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [الجاثية: 45/ 30- 37].
ذكر الله تعالى حال الفريقين من المؤمنين والكافرين، ليتبين الأمر للمخاطب في نفسه، ويعتبر من المقارنة بين الحالين، من طريق المقابلة وذكر الأضداد. فأما الذين صدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالح الأعمال، بأداء الفرائض أو التكاليف، فيدخلهم ربهم الجنة، وذلك الإدخال محقق لنيل البغية والظفر بالمطلوب.
وأما الذين أنكروا وحدانية الله والبعث، فيقال لهم على سبيل التوبيخ: ألم تكن آياتي الكونية والقرآنية تتلى على مسامعكم، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم، بارتكاب الآثام والمعاصي.
وإذا قيل لهؤلاء الكفار: إن وعد الله بالبعث والحساب حق ثابت، والقيامة حتمية لا شك في وقوعها، فآمنوا بذلك، أجبتم: لا نعرف ما القيامة؟ إن نتوهم بوقوعها إلا توهما ضعيفا، ولسنا بمتحققين أن القيامة آتية، أي إن نظن بعد قبول خبركم إلا ظنا ضعيفا، ولا يعطينا يقينا.
وظهر لهم حال يوم القيامة وقبائح أعمالهم، وأحاط ونزل بهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار، وعوقبوا بما هزئوا به في دار الدنيا: وهو العذاب والنكال. وقوله: ما كانُوا على حذف مضاف، تقديره: جزاء ما كانوا، أي عقاب كونهم يستهزئون.
والنجاة ميئوس منها،. فيقال لهم: اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم، فنترككم في العذاب، كما تركتم العمل لهذا اليوم، وتجاهلتم ما نزل في القرآن، ومستقركم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من أنصار، ينصرونكم ويمنعون عنكم العذاب، وبعبارة أخرى: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هنا، فلم تستعدوا ولم تتأهبوا له، فسميت العقوبة في هذه الآية باسم الذنب.
والمأوى: الموضع الذي يسكنه الإنسان، ويكون فيه عامة أوقاته.
وأسباب هذا العقاب: أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها، فاطمأننتم إليها، فاليوم لا يخرجون من النار، ولا يطلب منهم العتبى، بالرجوع إلى طاعة الله، واسترضائه، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة، ولا تنفع فيه المعذرة، لفوات الأوان، والله وحده هو القادر على البعث، فله الحمد الخالص على النعم الكثيرة لله خالق السماوات والأرض ومالكهما، ومالك ما فيهما من إنس وجن وحيوان، وأجسام وأرواح، وذوات وصفات.
ولله العظمة والجلال في أرجاء السماوات والأرض، وهو سبحانه القوي الغالب القاهر في سلطانه، فلا يغالبه أحد، الحكيم في أقواله وأفعاله. وهذا تحميد لله تعالى، وتحقيق لألوهيته، وإبطال لألوهية الأصنام، جاء في الحديث الثابت الذي أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري».
وفي لفظ: «قصمته».
الله تعالى هو الجدير بالعبادة، لأنه شامل الملك في السماوات والأرض، وكامل الذات والوجود والأوصاف، والمتنزه عن كل نقص، وله وحده الكبرياء والعظمة، الظاهر آثارهما في السموات والأرض، العزيز الذي لا يغلب، القادر الذي لا يعجز، الحكيم في كل ما قضى وقدر، فاحمدوه وحده أيها العباد، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأطيعوا كل ما أمر. هذه خاتمة سورة الجاثية وهي خاتمة رائعة، والقرآن كله ينطق بالحق والعدل.

1 | 2